بتجرُّد ……عن التصنيفات البالية
عن التصنيفات البالية : مقال فى ثلاث حلقات ، للكاتب الصحفى وزير مايكل، تنشره ( سودانس ريبورترس) فى حلقةٍ واحدة، تشجيعاً للحوار الموضوعى والهادف حول قضايا الحريات الصحفية، و أوضاع الصحافة والصحفيين، فى دولتى ( السودان) و ( جنوب السودان) وذلك فى إطار السياسة التحريرية لـ(سودانس ريبورترس) وإنطلاقاً من موقفنا الثابت والمبدئى فى (مناهضة خطاب الكراهية)، ونأمل أن يفتح حواراً جادّاً، يُراعى خصوصية هذا الموقع، بإعتباره صحافة حقوق إنسان. ولا يفوتنا أن ننوه، إلى أنّ الآراء المنشورة، تُعبّر بالضرورة عن وجهة نظر كاتبيها، وليس رأى ( سودانس ريبورترس)…فمرحباً بمساهمات الجميع
رئيس التحرير
بتجرُّد ……عن التصنيفات البالية
بقلم : وزير مايكل*
عن التصنيفات البالية (1 – 3)
حرب فرقاء الحركة الشعبية التي شهدت جوبا العاصمة شرارتها ليلة الخامس عشر من ديسمبر (2013م)، خلفت آثار قد لا تزول سريعاً في نفوس الناس، وهي بالطبع حرب متوقعة داخل حوش الحزب الحاكم لإعتقادنا بأن الممارسة الديمقراطية الحرة دُفِنَتْ إلى مثواها الأخير، وعندما إنشقت الحركة الشعبية يوم السبت الموافق 14 ديسمبر (2014م) في إجتماع مجلس التحرير بقاعة نياكورين إلى معسكرين، إنشق معها الجيش الشعبي في قيادة الحرس الجمهوري ومن ثم إمتد فيروس الإنشقاق ليصيب بعدئذٍ مناعة عامة المواطنين، وفي الأيام الأولى للحرب، كان قطاع الداخل (الحركة الشعبية في الحكومة)أشدة هرولةً بالبحث عن الذين أطلقوا عليهم يومئذٍبـ(الخونة والمارقين)، تقدمت صفوف هذه الحملة التطهيرية شخصيات بارزة بعضهم اليوم رؤساء تحرير صحف يومية وآخرين قيادات في تحالف منظمات المجتمع المدني المحسوب لتيار الحكومة، والبعض الآخر إختاروا طريقهم للخدمة في لجنة المصالحة والتعافي الإجتماعي التي أنشاءها الرئيس بقرار مؤخراً، والصحف العاملة في تلك الوقت كانت تضخ الدماء في أوردة الإنقسام القبلي بتوجيه ورعاية من مؤسسات حكومية وأمنية، الأمر من جانب أمثالنا تطلب التحرك السريع غير آبيين بإدراج أسماءنا ضمن قائمة (الخونة والمارقين) التي تصدرت وقتها أجندة مجالس المدينة، وبمبادرة من شباب غيور إتجهنا لتفعيل صحيفة كانت راقدة في مهدها بسبب عدم توفر الكادر المؤهل وهي صحيفة (المجهر السياسي)، ونتيجة للكتابات الجريئة والمتزنة التي إنتهجها بعض الكتاب والصحفيين، إستطاع القارئ بأن يقارن بنفسه شكل الخطابات المتبعة والمنتهجة في ذلك الوقت وبالتالي شهدت الساحة الصحافية نوعاً من الإعتدال النسبي لخوف الكتاب القبليين من المواجهة التي كانوا يتوقعونها من نظرائهم المحايدين وغير المنتمين لأي من المعسكرين المنقسمين، إستمر مسلسل التصنيفات وسط المجتمع بتخطيط وتمويل من جهات بعينها، وفي كل مرة كانوا يغلفون هذه التصنيفات بغطاءات معينة ويطلونها بدهانات زاهية الألوان، لكن جميع هذه الطلاءات والغطاءات كانت حبيسة دائرة التخوين حيث لم تتجاوز هذه الدائرة لفترة من الزمن، وكنتيجة لذلك وضعوني كرئيس للتحرير وقتذاك تحت المراقبة المشددة بعدما نِلتُ قسطي من الضرب بالـ(الدبشيك) أثناء الإستدعاء في أحدي غرف جهاز الأمن، ولأني أنحدر من قبيلة (النوير) المغضوب عليها علناً بلسان أفراد أمنيين،إتهموني بالخيانة وقالوا أنني من الذين يزوّدون المتمردين (الإسم الرسمي في ذلك الوقت)بالمعلومات في الداخل، وأن لدي إتصالات مع كل من “ريك مشار و تعبان دينق”، وعندما طلبتُ الإستماع لنوعية هذه الإتصالاتإكتشفتُ أن الأمر مجرد (فُقاعة) لا أكثر، وهذه كانت أولى المعضلات الخطيرة التي واجهتها طوال مسيرتي الصحفية والإعلامية، وكنتُ على كامل الثقة بنفسي لإيماني بالدور الذي كنتُ أؤديه لأنه كان مجرداً من أي زائف او شيء من هذا القبيل.
//////////////////////////////////////////////
عن التصنيفات البالية (2 – 3)
هذه الواقعة أكسبتني ثقة كبيرة، وقوت من مناعتي في مواجهة المصير المحتوم لي ولزملائي من الصحفيين الذين كانوا ضحية هذه التصنيفات، بعضهم دفع الثمن غالياً أما بالإساءة المباشرة أو بالتهديدات بالتصفية الجسدية، إستدعى الأمر محاولة إعادة تنظيم ساعات التحرك والتجوال اليومي، ومن هنا كانت التهدئة كتابياً بمثابة هبة إلهية واجبة لحفظ هذه الأرواح المهددة، وكان لا يعلو صوت آخر غير صوت الحكومة، والنجاة الوحيدة كانت عبر بوابة المناصرة والتسبيح بالتراتيل الحكومية، ومع ذلك فضّلتْ هذه المجموعة من الزملاء الصحفيين البقاء على بعد مسافة واحدة من كل هذه الأديان المتحاربة، حيث إستمالت راكوبة “ماما جبنه” بسوق مليشيا – حي مونيكي–غالبيتهم، و “ماما جبنه” هذه سيدة بسيطة أظهرت لنا بما لا يدعو مجالاً للشك أنها اُم ليس فقط على مستوى بيتها بل للكثيرين من أبناء هذا الجيل الذين تقطعت بهم سبل العيش الكريم.
في الوقت الذي لم تتوارى فيه الحكومة خجلها في تصنيف المناوئين لخطابها، كان البعض من أنصار المعارضة المسلحة قد تراصوا أمام محلات النت يهجمون بأصابيعهم على الكيبورد وهم يعلنون قوائمهم التصنيفية، وهذه القوائم لم ترحم خصوصيات بعضنا البته، فقد وجد كل منا نفسه أمام الإتهام بالخيانة العظمى والخروج عن المِلة، وقيل في حقنا ما لم يقوله “مالك” في خمر، لم يكن أي منا يشكل خطراً على المعارضة وقتها لإفتراض الكثيرين منا بأنها فاقدة للشيء وليس بيدها أدوات اللعبة السياسية التي قادت إلى هذه المهزلة من حرب ودمار،الكل كان يطالب الحكومة بالتراجع عن مواقفها المتشددة لتحقيق وفاق سياسي، وهذا كان بمثابة الإقرار الضمني بأن كروت الحل للأزمة بيد الحكومة، الكل كان متفقاً بأن الإصلاح والتغيير هما المخرج من الواقع المرير الذي تمر به الدولة عدا الحكومة التي كانت ترى عكس ذلك لكنها في الوقت ذاته المتهم الأول في إختلال معادلة الحكم بالبلاد، فهؤلاء العناصر كانوا يعتقدون أن الخيار الوحيد لإحداث الإصلاح والتغيير المنشودين هو اللحاق بصفوف المعارضة المسلحة، وهذا حسب رأيي إعتقاد غير موفق إطلاقاً لشواهد كثيرة، فالسلام الذي حقق للجنوبيين مطالبهم عام (2005م) لم يكن بفضل الأطراف المتحاربة وحدهم (الحركة الشعبية لتحرير السودان – المؤتمر الوطني الحاكم) بل هناك جهود بُذِلًتْ من الكافة،حتى المواطنين غير المنظمين سياسياً كانوا قد لعبوا دوراً كبيراً في تحقيقه، وهذه هي طبيعة الأشياء، تختلف الطرق والوسائل والآليات لكن في النهاية الهدف واحد هو الإصلاح والتغيير.
//////////////////////////////////////////////
عن التصنيفات البالية (3 – 3)
طوال فترةعملنا بصحيفة (الرأي) الغراء، كانت التصنيفات تلاحقنا نحن العاملون بالصحيفة،وهي التي ألقت بظلالهاعلى إغلاق الصحيفة في نهاية المطاف،ورغم ا لمحاولات الفاترة التي بُذِلَتْ فهي كلها لم تفلح في إقناع أهل المِلة فقد خابت جميعها، المسألةحسب الإستنتاجات التي خرجتُ بها ذات صلة بالأساس التصنيفي الذي أعتمدت عليه جماعةالحكومة في قياس الأمورخاصة بعد وقوع الأزمة، وقد أعلن ذلك صراحة الناطق بإسم الحكومة في واحدة من تصريحاته الشهيرة يوم قال ” كل مَنْ يقف في المنتصف نعتبره متمرداً”، كان هذا مانشيتاً بارزاً في صحيفة (الرأي) الموقوفة،ولأننا كنا نقف على بعد مسافة واحدة من الطرفين أو قل بالأحرى في المنتصف أصبحنا في نظرة الحكومة متمردين بإمتياز،أضف إلى ذلك إنتماء بعضنا إلى القبيلة المغضوب عليها وهذه كلها معطيات تقود إلى الوضعية المنبوذة وفقاً لشريعة الحكومة وهي الكفر والإلحاد.
إن مسألة الإنتماء لقبيلة ما ليست إختيارية، والخالق عندما وضعنا في هذا الكون وفق هذه الإنتماءات لم يكن القصد من وراء ذلك التناحر وإن كان هناك مَنْ يعتقدون بأن الأمر هكذا فهم مخطئون،وبمعنى أكثر وضوحاً، القبيلة ليست مدرجة حسب ناموس “الله” ضمن إختيارات الإنسان، إنها مصير تلقائي يجد المرء نفسه فيه دون أن يكون سبباً في ذلك،أما نحن الجنوبيون فقد فهمنا المسألة بطريقتنا المعهودة والقائمة على إعمال الأهواء أكثر على التفكير العقلاني في تقييم الأشياء.
عندما إنشقت مجموعة الدكتور لام أكول أجاوين من حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان وأعلنت نفسها كحزب مستقل، دفع أناس أبرياء في الضفة الغربية للنيل بولاية أعالي النيل ثمن إنتماءهم لقبيلة “شلو” التي ينحدر منها “لام أكول”، ونتيجة لذلك وقعت أحداث مأسوية في قرية “أواشي” بغرب النيل عام 2010م والتي أرسلنا لها فريقاً من الإذاعة القومية بملكال حيث كنتُ أعمل لتغطيتها، والأمثلة كثيرة …!!!
خلاصة القول هي أن الأزمة التي أعصفت الآن بإستقرار البلاد وأمنها، يجب أن تكون عبرة على الجميع إذا كانوا يحلمون بدولة الكرامة والإنسانية التي قاتلوا في سبيلها،والنفوس البغيضة المنتشرة في مختلف أصقاع الدولة لابد من مواجهتها بهذه الحقيقة أو إزاحتها من مواقع صنع القرار حتى لا يكونوا عبئاً على المشروع الإصلاحي والتغييري الذي ينشده الجميع عبر بوابة السلام الموقع بين أطراف الأزمة، أنا هنا لا أدعو إلى حياة المثالية لكني أحاول تأكيد شيء وهو أن محاسبة أي فرد او جماعة لابد أن يكون على أساس الجرم او الخطأ المرتكب بعيداً عن أهواء الإنتماء لجهة القبيلة أو غيرها، كما أن الإنتماء لقبيلة (X) او (Y) لا يمكن أن يكون كذلك معياراً للعفو من الجرم، وفي كلا الحالتين يصبح تفعيل القانون ضرورة واجبة، لكن أي قانون؟، الذي يحقق للناس جميعاً العدل ويساويهم في الحقوق، هذا هو القانون المطلوب، أما النوع الذي يتعرض للتعديل كلما أراد السلطان ذلك فلن يحقق شيئاً لأنه سيكون متهماً بتعميق الإختلاف وبالتالي سهولة وقوع التناحر بين الناس.
ولكم مني أيها القراء خالص التقدير والإحترام.
وزير مايكل
*الكاتب صحفى من دولة جنوب السودان