السودان وعقبة الشرعية الدولية
بعد الثورة الشعبية الأخيرة، ظل مطلب حل المليشيا/ت على رأس أجندة الثوار، ولكن قيادة الجيش تصدّت لهم
السودان وعقبة الشرعية الدولية
كتب: قرشي عوض
كل الجهود التي بذلتها حكومة الحرب في السودان من تحركات قامت بها وزارة الخارجية، ونشاط ممثل السودان في الأمم المتحدة، أو جولات البرهان منذ خروجه من أنفاق قيادة الجيش المحاصرة، وحتى ظهوره على منصة الأمم المتحدة، لم تفلح في تحقيق الاعتراف الدولي بحكومة إنقلاب 25 أكتوبر2012. وقد اشتكت – ومازالت تشتكي- الدبلوماسية السودانية لطوب الأرض، من أن منظمات الأمم المتحدة لا زالت تساوي بين الجيش، والمليشيا المتمردة عليه. وفي آخر جلسة لمجلس حقوق الانسان انفجر ممثل السودان في وجه المتحدث بإسم المجلس، حتى طلبت منه المنصة الصمت، حين قال الثاني إنهم يطالبون بحكومة مدنية، وليست ديكتاتورية عسكرية.
الموقف الدولي من انفجار الحرب في السودان واستمرارها ظل على حالته منذ الإعلان الرسمي عن رفض المجتمع الدولي لإنقلاب ٢٥ أكتوبر٢٠٢١، ومطالبة المكون العسكري بضرورة العودة للحكم المدني عبر عملية سياسية، تم الإِعداد لها بمساعدة دولية وإقليمية حتى قطعت عليها الحرب الطريق.
الغريب في أمر حكومة الأمر الواقع أنها تطالب المجتمع الدولي والشعب السوداني برفض واقع كان قادتها يدافعون عنه في الماضي، وحتّى أمسٍ قريب، وهم الذين رسّخوه و”شرعنوه”. ففي وقت باكر وقبل أن يستفحل الأمر، ظلّت منظمات حقوق الانسان، ومعها حركات الكفاح المسلح والرأي العام العالمي والمحلي، يطالبون بحل مليشيا “الجنحويد”، وتسليم قادتها المتورِّطين في جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، إلى العدالة الدولية، ولكن قيادة الجيش وقتها رفضت ووفرت لهم الحماية، مما وضع السودان في عين العاصفة الدولية.
وبعد الثورة الشعبية الأخيرة، ظل مطلب حل المليشيا/ت على رأس أجندة الثوار، ولكن قيادة الجيش تصدّت لهم، وقالت إنّ قوات الدعم السريع قوات نظامية، وأنها خرجت من رحم القوات المسلحة، ويحكمها قانون صادرعن هيئة تشريعية، وهو من ضمن القوانين التي سيتم العمل بها إلى أن يتم تغييرها بواسطة مجلس تشريعي جديد. ولم تكتف بذلك، بل جرّمت أن يُطلق لفظ (مليشيا) على تلك القوات. وقد مثل القيادي في الحزب الشيوعي صديق يوسف أمام القضاء بهذه التهمة. وعليه، وبهذا المنطق، تصبح قوات الدعم السريع حينما دخلت في نزاع مع القوات المسلحة قوات نظامية، لها نفس شرعية القوات المسلحة، وليس من حق القوات المسلحة وصفها بالتمرد عليها، لأنها ليست تابعة لها. فهي قوات خرجت على سلطة مختطفة عبر عملية سطو سياسي هي كانت مشاركة فيها، فالجيش لا يمثل السلطة، حتى يكون من حقه معاقبة من يخرجون على تلك السلطة. لذا فان الواقع الذي تأسس بعد الحرب لايمثل مواجهة بين من يحمون الشرعية المفترى عليها، ومن يخرجون عليها، ولكنه واقع يشكل حالة من انعدام الشرعية، تُعربد فيه قوّتان عسكريتان بلا رقابة من أي سلطة، كان يجب أن يحتكمان إليها ويخضعان لسلطانها.
في ظل غياب القانون الوطني، أو قصوره، في معالجة بعض القضايا مثل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية، كما هو الحال بالنسبة لدستور ٢٠٠٥ الذي اسقطته الجماهير.. في هذه الحالة يسود القانون الدولي. والآن لا يوجد دستور في السودان، ولا حتى إعلان دستوري بعد تمزيق العسكر للـ(وثيقة الدستورية) التي كان مقرراً لها أن تحكم الفترة الانتقالية، لو قدرت لها الاستمرارية. والبلاد تخضع للأحكام العرفية، استنادا إلى قانون القوات المسلحة في المناطق تحت سيطرة الجيش، وهو قانون بالطبع تنقصه المرجعية الدستورية، في ظل الفراغ الدستوري الحالي .. والمضحك أن قيادة الجيش كانت قد اعتمدت عليه في خرق الوثيقة الدستورية، وأظنها مفارقة عجيبة أن يتم تعليق وثيقة دستورية، بالاستناد إلى قانون كان ينتظر مثله مثل كل قوانين النظام المباد الإصلاح أو التغيير، وفق مقتضيات الوثيقة التي مزقها.
وبعد التحركات الأخيرة للمليشيا في كردفان، وشرق الجزيرة، واحتلالها لبلدة العيلفون، وممارسة نفس الفظائع التي ارتكبتها في الخرطوم بحري والخرطوم وأم درمان، تبدو سيطرة هذه القوات بلاحدود ولا قيود، وبالتالي لاعاصم من انتشار الفوضى. وفى هكذا واقع من غياب الدولة بصورةٍ كاملة، يري كثير من الناس، أنّ كل الحجج ضد التدخل الدولي، تصبح بلا غطاء سياسي وقانوني، وحتّى أخلاقي، لأنّ البديل لها فى تقديرهم، هو استمرار الوضع المأساوي الحالي. ومع ذلك، فإن الجيش في الواقع لا يسيطر إلّا على معسكراته التي يدافع عنها باستماتة، تاركا ماعداها لسيطرة الدعم السريع، حيث يسود قانون الغاب، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان.
المجتمع الدولي يقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع، ويحدد مطالبه في الوقف الفوري للحرب، واستئناف المسار السياسي المفضي لحكومة انتقالية مدنية، يبتعد – أو يُبعد – عنها “العساكر” في الجانبين، مضافاً إلى أنّه يتهم الجهتين المتحاربتين بارتكاب إنتهاكات لحقوق الانسان، وتأزيم الأوضاع الإنسانية.
وازاء هذا الحزم في الموقف الدولي، تغيرت لغة الخطاب المساند للجيش خاصة وسط التيار الاسلامي المتشدد .. فقد كتب الدرديري محمد أحمد، وهو وزير خارجية سابق في حكومة البشير منتقداً العقوبات الأمريكية ضد على كرتي أمين عام الحركة الاسلامية، ووصفها بانها تصادم الشرعية الدولية، مع أن تلك العقوبات لم تصدر باسم مجلس الأمن أو الأمم المتحدة أو أيّة منظمة من منظماتها. فهي عقوبات توقعها أمريكا على المتعاملين معها، ولايحق لاي جهة مراجعتها. فقط عليها أن تقبلها أو ترفضها. ولأنّ الدرديري، وعلى الأقل بحكم عمله في الخارجية يعلم هذه الحقيقة، وهو الذي واجه عقابيلها حين طُبِّقت مثل هذه العقوبات على حكومة البشير، ويومها لجأ إلى ترديد حكمة المشروع الحضاري التي لم تسمن ولم تغن من جوع، والمتمثلة في تحدي الشرعية الدولية، فطالب بأن تتعامل حكومة السودان مع واقع تعدد الأقطاب الذي برز في المجتمع الدولي وتمد يدها لدول البركس . لكنه لو تامل في طبيعة العقوبات الأمريكية المركبة والتي تطال الجهة المعنية ومن يتعاملون معها لوجد أن التنين الصيني نفسه لاحيلة له أمامها. وقد سبق لبكين أن رضخت لها حين تعاملت شركاتها مع إيران التي خضعت لهذا النوع من العقوبات. و في فعالية هذه العقوبات، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قائلا( نحن أكبر سوق في العالم. والكل يحتاج إلينا، ونحن لانحتاج لأحد) وهذا يعني بوضوح أن على الجميع توفيق سياساتهم الخارجية بما يخدم المصالح الامريكية. وعلى كل حال هذا واقع عسكري وأقاصي وسياسي وحضاري لم تفلح كل أيديولوجيات التهريج السياسي في جنوب وشرق الكرة الارضية في تغييره، والاعتماد على تحالف دول البركس لن يغير منه، فهي دول لا ترغب ولاتستطيع الخروج على الشرعية الدولية، كما أنها ليست على استعداد أن تضحي بمصالحها في أكبر سوق في العالم من أجل مجموعة حكام عسكريين لايتقيدون بأي قيود قانونية أو أخلاقية.
ولكن، حتى إذا استجابت دولة مثل روسيا لتوسلات جنرالات الحرب، واستخدمت حق النقض لحمايتهم، رغم أنّ ذلك سيكون صعبا، وينال من سمعة أي دولة كبرى، خاصة في ظل تعنت الحكومة، ورفضها التحقيق في حالة انتهاكات حقوق الانسان، مع أن قوات الدعم السريع بادرت بالترحيب باللجنة الدولية للقيام بهذه المهمة، وأعلنت استعدادها للتعاون معها، فان ذلك يعني مزيداً من التدويل وتحويل الحرب إلى مواجهة بين الضواري العالميين. وهكذا فإنّ الدرديري محمد أحمد يثبت بأنه هو وأخوانه في الحركة الإسلامية معنيون بمصالحهم أكثر من اهتمامهم بمستقبل البلاد.
خلاصة القول أن نبرة العقوبات الدولية في مواجهة طرفي الحرب قد ازدادت حدتها إثر تزايد انتهاكات حقوق الانسان، ووصول الأوضاع الإنسانية إلي أدني درجاتها من انتهاكات وانعدام لابسط الحقوق، بعد أن أطل شبح المجاعة بوجهه، وأصبحت الأوضاع الصحية تُنذر بكارثة إنسانية. هذا، إلى جانب انعدام الأمن بسبب غياب أجهزة العدالة والقوانيبن المدنية، في ظل سيادة الأحكام العرفية من جانب، والفوضى التي أخذت طابعا عرقيا في الجانب الآخر.
بقي أن نضيف، إنّ الضغوط الدولية المتصاعدة لن تكتفي بالوقوف في محطة رصد تلك الانتهاكات والأوضاع الماساوية، وكفى، ولكنها ستتحرك خطوات للتأثير فيها بأشكال مختلفة. وقد اتضح من خلال العقوبات الأخيرة واللهجة التي تحدث بها المبعوثون الدوليون مع حكام السودان أن المجتمع الدولي يعتقد أنّ طرفي النزاع ينتهكون حقوق الإنسان، وأنه لا توجد دواعي قانونية أو سياسية تجعله يُميّز بين الطرفين أو يُفضل أحدهما على الآخر.