تَلويحةُ الخُلودْ … الرجل الحشدُ في مفرده.
"على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ"
تَلويحةُ الخُلودْ
“على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ”
يُغيِّبُ الموتُ عنَّا وعن الدنيا أجساداً في كُلِ حينٍ، تعبرُ دارَ الضيقِ و الزوالْ لمرقدها الأخير. بينما تلتمع بسماواته الداكنة في بُرهات تاريخية وجيزة ونادرة شهبٌ تحررت من قيودِ الجسدِ، لشسوع الخلود والأبدية، لتنعمَ فيه بما كرسَّت له قولاً وعملاً على إمتداد سنيِّ حياتها. ونقولُ تنعم ههنا تصديقاً لوعد الكريم بأنْ “وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْد اللَّه” فكيف بمن آلى على نفسه ألاّ يحيدَ – في حدْبهِ وجِده- قيدَ شعرةٍ عن إعتناق هذا الخير عقيدةً يعيش بها بين الناس وللناس باذلاً لهم فكره، وعلومه، وفنونه، ومنافحاً عن الحق أنَّى توجهت ركائبه! تلك حياة تَجْدرُ بعظيم، أدرك كنهها، فنهض على حرثها “ملفعاً بالريح”، وعاد للصدى “متشحاً بأغنية الصخور الشُّمِ”.
يصعبُ الحديثُ، بل يستحيل في مقامِ العظماء، ويغدو ضرباً من المهرجاناتِ البلاغية التي لا تخلو من حسنِ المقصدِ، وصدقِ المسعى؛ غير أنها تُفرغُ طاقةَ الإمتنانِ والعرفانِ في عملٍ لحظيٍّ، يَعْلقُ مِنهُ مايَعْلقُ بأذهانِ الناسْ، ويَذهب ماتبقى منه جُفاءً.
إنشغل كمال بالكتابة، فكانت جزءاً من يومه، إن لم تكن جُله، حتى بارح وهو طافقٌ يكتب. وأعتنى بالمكتوب عنايةً خاصةً بدت جليَّةً في كل ما حَبَّر، وما تلك بطوِيَّةٍ، فما ذُكرَ كمال الجزولي إلا وذُكرت اللغةُ في كمال بهائِها.
رأينا، نحن أسرة كمال الجزولي، أن أفضل ما يمكن أن يُبذلَ من جهدٍ تخليداً لذكراه لن يتأتي إلا كتابةً، ذلكم دربه ودأبه. وحقه علينا أن نصْبِر عن الرثاءِ والشكرِ شفاهةً الآن، وننكًّبُ على كتابةِ وجمع شهادات صدقٍ من معاصريه عن جوانبه ونبوغاته المتعددة، كلٌ حسْب ما يرتأي، مستنطقين (شفاهةً) آخرين مِن منْ يجدون في السرد طلاقةً أكبر، ومعيدين نشر ما طالته يدُ الحربِ من خرابٍ لحِق بمكتبته الخاصة أو بنُسخِ كتبهِ ومقالاتهِ حوزةَ المكتبات وأصدقائه وقارئيه، ومقتفين آثار أدبه المنشورِ في بلادِ العُجمِ والعربِ، في ملحمة تتضافر فيها الجهودُ وتتجردُ من كلِّ غرضٍ ذاتيٍ، حتى لا ينقطعَ عملُه ولا يُفقدُ أثَرُه. ولربما تسمح الأيامُ يوماً بأن يتم تأبينه في عِطرِ روحِه، وتميمةِ دنياه، أمدرمان، وإنْ لم يُوارى ثراها.
لا يخفى على أيٍّ منَّا ما جرَّته هذه الحربُ النكراء علينا من دمارٍ نفسيّ، ومادي، ومعنوي، فزعزعت هدوءَ أنفُسِنا ومزَّقت نسيج أرواحنا تاركةً ايّانا بلا إتجاه، فلا نحن في مأمنٍ حيث عهدنا الأمان قبلاًً، ولا نحن بمأمنٍ حيث خرجنا نطلُبه. والآن تكبرُ تساؤلاتُنا عن جدوى، بل وعن إمكانية ومناسبية إقامة تأبين يليق بكمال الجزولي في مكانٍ غير أمدرمانه. فحتماً سنجدُنا محاطينَ بتعقيداتٍ أمنيةٍ ومجتمعيةٍ وحتى ماديةٍ، تتسربُ، لا محالة، لتخدش صفاءَ المناسبةِ وجلالها، وتلُفَّها بعبءٍ ليس بأصيلٍ في روحها، إنما هو عبءُ الشتاتِ وليدَ الغربةِ العبوس، وما يتبعُه من تعقيداتٍ وإجراءاتٍ وإنصرافٍ، فتتشوهُ وتخرجُ عن غرضِها.
وبهذا، وبعد إمعانِ النظرِ في جوانب الأمر، ومااقترحه بعض محبيه من رغبةٍ صدوقٍ في التحضير لأربعينيةٍ وتأبين، إطمأنَّتْ قلوبُنا لأمر التوثيق لحياته طيَّ كتابٍ يكون بمثابةِ تصديرٍ لمتروكه الوافر، وإرتأينا أنَّ كل سعيٍ سواهُ ما هوَ إلا تشتيتٌ لجهدٍ وطاقةٍ لايستهان بهما، من شأنهما الوقوفُ على، ودعمُ مشروع التخليد هذا حتى يخرجَ إلى النورِ كتاباً للسودان وللتاريخ، ولروحٍ تنظر إلينا من علٍ ماذا نحن فاعلون؟
ندعوكم، ونحن نثق بتفهمكم لرغبتنا هذي، أن تمدوا يد العون في ما عقدنا عليه العزمَ، رفداًً بالوقت والكَلِمِ والتنظيم والتشاور، فمنشودنا مشترك، ينطلق كريماً، سامقاً، ودؤوباً في مضمار الخلود.
نقول، نسأل اللهَ لنا ولكم الصبرَ والعون على ما ترك لنا كمال الجزولي من مهام جِسام، وهو الرجل الحشدُ في مفرده.
مُخلصوكم
أسرة كمال الجزولي