موعد مع الموت
أحس بأن هذا "التُكتُك" يحمل جثة إبنتي...
موعد مع الموت
أحس بأن هذا “التُكتُك” يحمل جثة إبنتي…
الأبيض: قرشي عوض / خاص بـ(سودانس ريبورترس)
الطالبة (س) تدرس في إحدى مدارس الأبيض الثانوية للبنات… لم تفتح مدرستها في نفس اليوم الذي حددته الوزارة لإستئناف الدراسة. فمعظم المعلمين والتربيين، بل، وأرباب الأُسر لم يتحمسوا للفكرة. ويعتبرون القرار متعجل ويخدم أهدافاً سياسية، وإرسال رسائل في بريد جهات بعينها، مفادها، أن المدينة قد خرجت عن دائرة الخطر، في وقت فاق فيه عدد القتلى منذ بداية الحرب، وحتي شهر أغسطس الماضي 300 ، ووصل عدد الجرحي والمصابين إلى 435 بحسب مصادر طبية، آثرت عدم ذكر إسمها. كما يسري همس لم يلبث أن تحول إلى جهر، ثم أكدته الأحداث اللاحقة، بأنّ أصحاب المدارس الخاصة، هم الذين يقفون خلف فكرة إعادة فتح المدارس في هذه الظروف… ففي الورشة التي عقدت في الأبيض قبل أكثر من 6 أشهر، وحضرتها الجهات المعنية، من إدارات التعليم العام والخاص، ومنظمات المجتمع المدني، والإدارات الأهلية، وقيادة الفرقة الخامسة مشاه، واللجنة الأمنية، وخاطبها والي ولاية شمال كردفان، أكد ممثلوا المدارس الخاصة إستعدادهم لإستضافة طلاب المدارس الحكومية، التي تقع في مرمي نيران مدفعية الدعم السريع، في غرب المدينة. ووعدوا بأنهم سوف يعملون بدوامين. فالمعروف أن المدارس الخاصة كلها، تقع في شرق المدينة، وفي الأحياء التي عرف أهلها الثراء عقب موجة الإغتراب في النصف الثاني من القرن الماضي، إضافة إلى أثرياء فترة حكم الانقاذ. كما أنها تقع خلف قيادة الجيش، ولم تتاثر بالحرب، علي العكس من أحياء المدينة القديمة، التي تعتبر مكشوفة تماما. راقت الفكرة للسيد الوالي وحكومته، علي الرغم من الصعوبات العملية التي تعترض تنفيدها، مثل إرتفاع تعرفة المواصلات، التي لم تعد عملياً في مقدور غالبية الأُسر.
رب أُسرة متوسطة الدخل، قال: فى مثل ها الوضع، عليه أن يصرف 12 ألف جنيه علي أطفاله الأربعة يومياً، وبما أنه ليس في مقدوره توفير هذا المبلغ بمصادر دخله الحالية، فإنه لن يرسلهم للمدارس… الفكرة لم تكن عملية. ولكن، تعذُّر تنفيدها، لم يدفع الحكومة، لإعادة النظر في قرارها، ففتحت المدارس أبوابها في الزمان المحدد، دون أن تفي المدارس الخاصة بتعهداتها، بإستقبال طلاب المدارس الحكومية، ولم يتحمّس معظم الأهالي إلى مايعتقدون أنّه محرقة، فأصدرت الوزارة تعليماتها، لادارات المدارس الحكومية، التي تقع تحت إمرتها (دون حماية) بالمداومة في المدارس، أثناء ساعات العمل الرسمية، واتخاد الإجراءات الرسمية تجاه من يتغيب، مع أنها تعلم بأن هناك صعوبات حقيقية، تقف في سبيل تنفيذ هذا الأمر الإداري الصادر برقم متسلسل، والواجب النفاذ، كما كان يحدث في الظروف الطبيعية، لأنّ المدارس الحكومية تحولت إلي معسكرات لإيواء النازحين، رغم أن المنظمات الطوعية التي شاركت في الإجتماع الموسع المشار إليه، كانت قد تعهدت ببناء معسكرات للإيواء، إلّا أنها لم تشييد سوى معسكر واحد!.وهكذا، اُستؤنفت الدراسة، وعاد الطلاب والطالبات إلى مدارسهم/ ن، في طوابير سير صباحية – “تحت مثار النقع” – لتواجه إدارات المدارس، وضعا غير مألوفٍ لديها من قبل، حيث يتعيّن عليها الإشراف على نظامين مختلفين في الحياة، أحدهما خلّفه النزوح، وهو يميل الي العشوائية، وغير مترفقٍ بالبيئة، والآخر يفترض فيه أن يكون منضبطاً.
إحدى مديرات المدارس الثانوية للبنات، وحين استعصئ عليها التوفيق بين هذه المتناقضات الحادّة، رفعت الأمر إلى الجهات المسؤولة، لكنها، وجدت أن تلك الجهات ليس لديها حل !، حيث أن إدارة النازحين، لاتخضع لها، فطلبت من السيدة المديرة أن “تصبر” و”تحتسب”، وتحاول أن تبتكر طريقة للتعايش مع هذا الوضع، وحين أتمت قرأءة رد مكتب التعليم، على خطابها المستعجل، سرحت ببصرها في الأفق البعيد، وهي تحاول أن تجد تلك الطريق المثلى للتوفيق بين الحياتين، فوقعت عينيها كما قالت على مشهد لطالبة داخل الفصل، تحاول التركيز مع الأستاذ، ونازحة في مثل سنها تدير حواراً عبر الهاتف، لا تخفي مراميه، ويفصل بين الإثنتين جدار، لايحجب الصوت!.
المسؤولة عن المعسكر وهي إمرأة أربعينية من عداد النازحين، تعُول فتاتين أُستخلصتهما بصعوبة من براثن وحوش الدعم السريع، وجدت نفسها في وضع يحتم عليها الإتفاق مع مديرة المدرسة، على إدارة المكان، ليكون مدرسة في الصباح، وسكن في المساء، بكامل متطلباته، بمافيها تحديد فترات “الخلوة الشرعية”، وذلك، بعد أن فشلت إدارة النازحين في نقلهم، إلى معسكر إيواء، يبدو أنه لن يكتمل في القريب العاجل !.
أسر كثيرة لم تقبل بإرسال أولادها وبناتها إلى هكذا مدارس… ومكثت الطالبة (س) مثل كثيرات في المنزل، لكن، صديقتها في مدرسة ثانوية قريبة من المنزل، أخذتها معها في زيارة للمدرسة… تم الترحيب – بالقادمة الجديدة – بها من قبل الطالبات، ولم تعترض المعلمة، على وجودها في الحصة الأولى في الدوام، وإن كانت الأخيرة في حياة (س)!. وقبل أن يقرع جرس نهاية الحصة الثانية، جاء الغفير مُسرعاً، وطرق باب الفصل، وطلب من الأستاذة أن تصرف الطالبات، وبسرعة، لأن هناك أمر جلل، من المتوقع أن يحدث !. وقبل أن ترتب الأستاذة أوراقها وأفكارها المشتتة ، وتطلب من الطالبات الخروج – بهدو – إرتطمت قذيفة مدفع، بالجدار الخرساني !.
خرج الجميع من منازلهم لمتابعة مايحدث، ومن بينهم والدة الطالبة (س)… وفي هذه الأثناء، كان هناك “تُكتُك” ينطلق بسرعة في الناحية الغربية… حينها أحست والدة (س) بانقباض شديد، وقالت لجارتها: “ربنا يستر” !… وأردفت أحس بأن هذا “التُكتُك” يحمل جثة إبنتي… ثم سقطت مغشياً عليها !.