أكثر من عام ونصف .. ولا زال السودانيون يرددون “لازم تقيف” !
الديسمبريون سيعيدون رصف طريقهم، وطريق بلادهم نحو المستقبل
الزين عثمان
في شهرها التاسع عشر لم تترك حرب السودان مكان إلّا والتهمته نيرانها، آلاف القتلى والمصابين، ملايين النازحين، أسر في العراء، هائمون في الطرقات، لا يلوون على شيء، المدن تحت القصف، أو صارت بيوت أشباح، بعد أن غادرها أهلها، طلباً للنجاة،هنا وبتعبير الشاعر السوداني، عاطف خيري “حتى الناجي من الذبح صار يعبد خنجراً”!.
في سودان سكاكين الحروب الطويلة، ما زال هناك من يرفع رايات السلام البيضاء، متزامناً ذلك مع دعاوي تجييش الشعب، والنداء عليه لمقاومة “المليشيا”… دعوات يرددها وللمفارقة ذات من صنعوا قوات الدعم السريع، ذات صباح أسود، ومن ثمة شرعنوا وجودها لاحقاً، عبر المجلس التشريعي والبرلمان.
حسناً، وفي الوقت الذي يحتشد فيه الآلاف في الميادين برفقة سلاحهم، استعداداً لخوض المعركة التي يصفها “البلابسة” بالفاصلة، يسبقهم توصيف “المستنفرين”، ما زال هناك من يتمسك بموقفه الرافض للحرب، وبشعاره “لازم تقيف”، وهوالشعار الذي خرج صبيحة الحرب من الرافضين لها ولاستمراريتها، من القوى المدنية، ومن الذين دفعوا فاتورة الحرب، أو أولئك الذين أبصروا تداعياتها من طلقتها الأولى.
في شهرها التاسع عشر، تطرح حرب السودان سؤالها، هل تراجعت دعوات إيقافها، وضاعت في صدى أصوات البنادق، التي يلوح بها المستنفرين في انتظار خوض معركة الكرامة، أم أن التسليح، وانتشاره ضرورة أُخرى لاستمرار المطالبة بايقافها ؟.
في رحلاتهم المكوكية وهم يتنقلون بين الدول والعواصم لا يزال قادة تحالف “تقدم” بزعامة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، يواصلون جهودهم من أجل إيقاف الحرب متعهدين ببذل كل ما يستطيعون لتحقيق تلك الغاية، وفي هذا السياق، سبق وأن أعلنت “تقدم” استعدادها لمقابلة رئيس مجلس السيادة، وقائد الجيش، الفريق البرهان في أي مكان يحدده … لكن في المقابل لا للحرب التي تعلنها “تقدم” تجد نفسها في مواجهة حملات التشكيك، ووصف أنها كلمة حق أريد بها باطل.
يرى الكثيرون في تحركات “تقدم” بأنها تأكيد على أن خيار إيقاف الحرب، ما زال هو خيار طيف واسع من السودانيين، بمختلف توجهاتهم، ويتمنون لو أن هذه الخطوات نجحت، في وضع نهاية لمعاناتهم…
وما يعزز خيار الرغبة في إيقاف الحرب، هو الحالة من الفرح التي يستقبل بها السودانيون أي خبر يؤكد على جدية الأطراف في إستئناف التفاوض، واللجوء للحلول السلمية، أكد على ذلك، ردة الفعل التي صاحبت تسريبات حول لقاء جمع الفريق شمس الدين الكباشي، مع عبد الرحيم دقلو، للتفاكر حول آليات إيقاف الحرب قبل شهور، والذي أطلق عليه لقاء ا”لمنامة”، وهي خطوة سبق وأن وجدت ترحيباً أكثر من الرفض، وإن لم تغيب عنها التساؤلات حول جدواها، ومدي علاقتها، وارتباطها بمنابر التفاوض الأخرى، وعلى رأسها منبر “جدة”، خصوصاً، في ظل اقتناع كثيرين بأنها حرب، بلا منتصر…
فرضية كونها حرب بلا منتصر وفي ظل تداعياتها السلبية، انخرط كثير ممن كانوا يدعمون خيار “بل بس” في خيار”لازم تقيف”، وصاروا داعمين لخيار ايقاف الحرب، ونزيفها المستمر، وأن لا طريق نحو نهايتها غير طريق التفاوض وإن اعترضته المتاريس.
سيصبح بطلاً ذلك الذي ينجح في إيقاف حرب عبث أبريل السودانية، سيكون بطلاً في عيون المشردين، و في عيون الأمهات المقيمات في مدارس،لا تقيهم زمهرير البرد، بطلاً في عيون الأطفال الراغبين في العودة لمدارسهم، في عيون الشباب الراغبين في إكمال دراساتهم الجامعية، سيكون بطلاً في عيون سودانيات، لا يرغبن في شيء أكثر من رغبتهن الجلوس على شاطئ النيل، عند مقرن النيلين، سيكون بطلاً في عيون شيخ سوداني رغبته أن يعود إلى منزله، في أمدرمان، لينهي فيه ما تبقي من عمره… سيكون بطلاً في عيون متطوعي مستشفى النو الراغبون في العودة لحياتهم الطبيعية، بعيداً عن الأشلاء والدماء، وسيكون بطلاً في عيون الخرطوم التي تنتظر سلامها، فقد أنهك أهلها الموت، في زمان حرب العبث.
هؤلاء فقط من ينتظرون السلام، وهم نفسهم من يرجح كفة الحياة، في مقابل كفة الموت، وهم نفسهم من يجعل خيار “لازم تقيف” مرجحاً على خيار “بل بس”. لكن، ترجيح خيار السلام لدى السودانيين، لا يبدو طريقه مفروشا بالورود … حيث أن حرب السودان اليوم ليست هي ذات الحرب التي اشتعلت قبل عام ونصف، ومن يقودونها الآن ليسوا هم ذات من أشعل فتيلها في ذلك الصباح .. الدعم السريع لم يعد هو نفسه، كما أن مياه كثيرة جرت تحت جسر الجيش.. الحركات التي كانت في الحياد يومها الآن تحشو بنادقها برصاص الإنتقام، ويحشوا قياداتها قلوبهم بأمل الحصول على مكاسب الكرامة.. بعد أن شاركوا فيها.للإقليم حساباته، وللمجتمع الدولي – أيضا – حساباته، وبالطبع، لا يمكن نسيان حسابات من يبيعون السلاح لطرفي النزاع الباحثين عن موطىء قدم للتإثير …
الراغبين في التمتع بموارد بلاد، لا تزال بكراً، لكن، مع حسابات هؤلاء ثمة حسابات أُخرى حسابات من تحركهم الإنسانية، من تستيقظ ضمائرهم، حين يرون مقتل الصغار، اغتصاب النساء، الخوف المحيط بكبار السن، من يرون الناس يموتون بالحمى وانعدام الدواء، من يحركهم خبر مفاده أن مواطنين سودانيون قتلهم الجوع في بلاد تحدثهم الجغرافيا بأنها سلة غذاء العالم ..
هؤلاء، ومعهم من لا زالوا عند يقينهم بضرورة توقف الحرب، هم من سيهزمون الموت السوداني، ويعيدون لأرض النيلين حياتها، وبالطبع، في سودان ما بعد الثورة، التي أطاحت بالرئيس المعزول عمر البشير… لا يمكن نسيان الديسمبريين، الجيل الذي صنع ثورته، وما زال متمسكا بشعاراتها.. حرية سلام وعدالة.. وإن كانت الحرب – النآ – قد دفعت بحراكهم المدني، نحو الرصيف، لكنهم لا يزالون لم يلقوا سلاحهم بعد، وفي لحظة ما، سيعيدون رصف طريقهم، وطريق بلادهم نحو المستقبل.