أُمّهات تحت وطأة الحرب ومرارة الفراق
الحرب ليست قدراً محتوماً، لكنها، نتيجة خيارات بشرية، يمكن تغييرها
هل يتحرك العالم، لإنقاذ هؤلاء الأمهات؟ أم تظل صرخاتِهن تختفي في صمتٍ مخجل؟
تقرير – حسيبة سليمان (خاص: سودانس ريبورترس)
في منزل صغير محاصر بين الخوف والقلق وصدى القصف، جلست طيبة مُتكوِّمة على الأرض، تحتضن بطنها المنكمش خوفاً وألماً… كانت تشعر بنزيفٍ حادٍّ يتزايد، وكأنّ الحرب قد امتدت إلى أحشاء جسدها النحيل… الساعةُ تشير إلى السادسة مساءاً، والطريق إلى المستشفى مغلق بجدران من الدمار والخطر. في المقابل، الخطر أعظم، والألم لا يُطاق “مغصٌ شديدٌ يُصاحبه نزيفٍ حاد… بدأت أشعر أنني أفقد قطعة من روحي… كنت أصرخ بصمت، لكن، القصف كان أقوى، من أي صوت، قد يخرج مني”… بهذه الكلمات بدأت (طيبة) تروي قصّتها المأساوية لــ(سودانس ريبورترس)… كانت هذه اللحظات بداية لرحلة ألم، امتدت لتصبح عنوانًا لحياة النساء السودانيات، في مناطق الصراع الدامي.
بعد ساعات من القصف، توقّف إطلاق النار، لكن، طيبة، وقتها كانت قد خسرت أكثر مما يمكن تعويضه. جاهدت، وحاولت الوصول إلى المستشفى، وهي في حالةٍ يُرثى لها، ولكن، الأوان، كان قد فات… فقدت طيبة جنينها الأول، وسط ظروفٍ قاسية، جسدياً ونفسياً، لم تترك سوى جراح عميقة وذكريات مريرة، لم تفارقها حتى الآن.
من ألم الولادة… إلى مرارة الفقد
ما عاشته طيبة، لا يمكن أن يُفهم، إلا في سياق مأساة أكبر، تعيشها نساء كثيرات في السودان. ففي كل زاوية من مناطق النزاع، تُكتب قصص مشابهة، تعكس واقعًا مظلماً، حيث تتحوّل الأُمومة من حلمٍ إلى كابوس… وجاء تقريرٌ حديث لمنظمة (أطباء بلا حدود)، ليؤكِّد أنّ ما تعيشه طيبة، ليس حالةٍ استثنائية، بل جزء من أزمة أوسع… بين يناير، وأغسطس 2024، شكّلت وفيّات الأُمهات في مستشفيين، تدعمهما المنظمة، بجنوب دارفور، أكثر من 7% من إجمالي وفيات الأمهات عالميًا… أرقامٌ تعكس مأساة إنسانية تتجاوز حدود الاحتمال.
الموت يحاصرهن في أرض لا ترحم
ومع استمرار النزاع المسلح، لا تتوقف المآسي، وفي جنوب دارفور، تصل النساء الحوامل إلى المستشفيات في حالات حرجة، وغالباً ما يكونُ الوقت قد نفد، لإنقاذهن، كما تؤكّد منظمة (أطباء بلاحدود)… والخلاصة، أن قصصاً مثل قصة طيبة، ليست مُجرّد روايات، عن معاناة فردية، بل صرخات استغاثة، تعبّر عن مأساة جماعية… فالحرب ليست قدراً محتوماً، لكنها نتيجة خيارات بشرية يمكن تغييرها.
مأساة أن تكوني أُمّاً في زمن الحرب
وفي هذا السياق، كشفت الدكتورة آلاء علي، اختصاصية أمراض النساء والتوليد، التي تنقّلت بين ولايتي الخرطوم، والجزيرة، لتقديم العون الطبي، إنها شهدت العديد من القصص المؤلمة التي تتحدى الإنسانية. وتشرح الدكتورة آلاء لــ(سودانس ريبورترس): قصة مأساوية عن أُمٍّ في الشهر الخامس من حملها، ركضت مع أطفالها، هرباً من القصف في أمدرمان، واضطرت للاختباء، تحت سريرها، كما يفعل سكان المدينة، لحماية أنفسهم… وفي غمرة بحثها عن النجاة، لها، ولأطفالها، شعرت بآلام شديدة، ونزيفٍ حاد، لتفقد جنينها، في لحظة كان فيها الموت أقرب من الحياة للجميع… ولم تقف المأساة عند ذلك الحد، فعندما حاولت السيدة التوجُّه إلى المستشفى، كانت الاشتباكات العنيفة، قد حوّلت الطريق إلى مصيدة قاتلة… رغم ذلك، نجت الأم بصعوبة.
كيف تُسرق أرواح الأبرياء في زمن الحرب؟
وتؤكد الدكتورة آلاء، أن هذه القصة ليست وحيدة… فمع تسارُع ويلات الحرب، وُلدت امرأة، لأوّل مرة في منزلها، تحت إشراف قابلة غير مدربة… وصل الجنين إلى العالم، فاقداً للأكسجين، ولم يكن هنالك ما يمكن أن يساعده، ليودِّع الحياة في لحظات قاسية… ومن جانبٍ آخر، كانت هناك أُم “بِكرِيّة” أُخرى، وصلت إلى الشهر الثامن، دون تلقّي أيّ نوعٍ، من الرعاية الطبية، لتلِد طِفلها – الأولى – في ظروفٍ مأساويةٍ للغاية، ليكتشف الجميع – لاحقًا – أن الجنين، كان قد تُوفّي داخل أحشائها منذ أسابيع.
ورغم أن الحرب، فرضت نفسها، كقوةٍ خارقة، لا يمكن مقاومتها، لم تقتصِر مُعاناة النساء على ذلك. فقد تمّ نقل شابّةٍ في التاسعة عشرة من عمرها، إلى المركز الصحي، بعد أن فقدت وعيها، لتكتشِف أسرتها أنها فارقت الحياة، قبل أن تصل… ولدى سؤالهم عن سبب الوفاة، تبيّن أنها وضعت طفلها في المنزل، تحت إشراف قابلة غير مختصة، ومع مرور ساعات بعد الولادة، تدهورت حالتها الصحية بشكلٍ مُفاجىء، وفقدت حياتها، نتيجة لفقر الدم الحاد، الناتج عن الحمل، وسوء التغذية.
مآسي الولادة تحت نيران القصف
تلك القَصص الحيّة، في قلب الحرب، التي تلتهم كل شيء، لا تنفك صرخات الأمهات في السودان، تمزج بين آلام الولادة، وفقدان الأمل، حيث لا مكان للرحمة، ولا فرصة للنجاة… تحت دوي المدافع، تصبح الحياة، والموت، في لحظات متشابكة، والأمهات هُنّ الضحايا الأوائل، في هذه المعركة، غير المتكافئة… ومع كل يومٍ يمُر، تزداد القصص المأساوية، التي ترويها الأمهات، في زمن، بات فيه كل شيء مهدداً.
تفاقُم المأسي
ومع تفاقم هذه المآسي، يُحذّر الدكتور سيّد محمد عبدالله، المتحدث الرسمي باِسم (اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان)، من كارثةٍ صحية وإنسانية، مدمرة، تُهدد حياة النساء النازحات… وقال في حديثه لــ(سودانس ريبورترس): “النساء يشكِّلن 65% من إجمالي النازحين، في ولاية القضارف، ويُعانين من أنواع عدة، من العنف الجسدي والنفسي، في غياب كامل للحماية والخدمات الأساسية”… هذا الوضع الصحي المُزري، لم يتوقف هُنا، بل، أضاف: أن أكثر من مليوني طفل، وُلدوا في ظروف غير إنسانية، بينما لا يزال معدل وفيات الأمهات، مرتفعاً بشكل صادم… في الوقت الذي تعجز فيه الكثير من الأُمّهات عن الوصول إلى المرافق الصحية، بسبب القصف العشوائي، تُمثِّل الولادة في المنازل، خطراً مضاعفاً.
في زمن الحرب، تصبح الأمهات ضحايا
وأشار الدكتور سيّد، إلى أن أكثر من 70% من عمليات الولادة، تتم في المنازل، بينما حوالي 80% من المرافق الصحية، في مناطق النزاع خارج الخدمة، ممّا يُزيد من تعقيد الوضع الصحي.
ويؤكد الدكتور سيّد بقوله: “في ظل هذا الواقع الكارثي، باتت حياة النساء الحوامل، مهددة أكثر، من أي وقت مضى”… فمع استمرار الحرب، أصبح أكثر من 2.6 مليون امرأة في سن الإنجاب في حاجة ماسّة إلى الرعاية الصحية الأساسية، وهو ما يُعرض حياتهن وحيا،ة أطفالهن لمخاطر، لا تُعد ولا تُحصى.
وأنهى الدكتور سيّد حديثه لــ(سودانس ريبورترس) بالقول: “اللحظة الحاليّة تتطلّب استجابة سريعة، وحاسمة، فالوقت يمُر، والكارثة تتفاقم، ولذا، يجب أن يكون التحرُّك الآن لإنقاذ الأمهات اللاتي لا ذنب لهن، سوى أنّهن وُلدن في زمن الحرب”… وبالرُغم، من أنّ القصف والدمار، يُخفيان أحلام الأمهات، تحت ركام الحرب، وسط الظلام، يبقى الأمل حياً، يحتاج – فقط – إلى من يُنقذه… ويبقى السؤال الأهم: هل يتحرك العالم، لإنقاذ هؤلاء الأمهات؟ أم تظل صرخاتِهن تختفي في صمتٍ مخجل؟