لعبة الخوف.. رهائن فى قبضة المجهول … كيف أصبحت الفدية سلاح الحرب الجديد؟
في السودان اليوم، يمكنك أن تكون ضحيةً لمجرد أنّك موجود
لعبة الخوف.. رهائن فى قبضة المجهول … كيف أصبحت الفدية سلاح الحرب الجديد؟
في السودان اليوم، يمكنك أن تكون ضحيةً لمجرد أنّك موجود
تقرير – حسيبة سليمان / خاص: (سودانس ريبورترس)
في بلد يُمزّقه النزاع المسلح، برزت ظاهرة مروعة، تُضيف إلى أوجاع السودانيين جرحًا جديدًا: الخطف من أجل الفدية… مع تصاعد أعمال العنف، باتت هذه الجريمة، وسيلةً رخيصة، لجمع الأموال، واستغلال حالة الفوضى، تاركة المواطنين والمواطنات في حالة من الخوف والصدمة… وفي ظلّ الانهيار الشامل، يبدو أن الجماعات المسلحة وعلى رأسها قوات الدعم السريع، وجدت في عمليات الخطف وسيلة فعالة لتمويل نشاطاتها. هذه الظاهرة، التي بدأت كحوادث فردية، أصبحت الآن نظاماً متكاملاً يهدد كل سوداني، وسودانية.
وفي هذا السياق، فإن ولاية الجزيرة التي كانت تُعرف يوماً بالهدوء الريفي، تحوّلت إلى مركز للرعب. وبينما سكانها يكافحون للبقاء وسط تداعيات الحرب، اجتاحت قوات الدعم السريع الغالبية العُظمى منها، لتصبح حياة المدنيين سلعة للمساومة والإبتزاز.
وكالنار في الهشيم، انتشرت مقاطع فيديو كالنار في الهشيم طيلة الأشهر الماضية، لأشخاص يُشهرون السلاح لضحاياهم، مطالبين ذويهم بدفع فدية مالية ضخمة، وإلّا سيقومون بقتلهم بلا رحمة.
وفي إحدى المقاطع، يظهر فيه رجل أعمال مختطف، جالساً على الأرض، مرتدياً زيّاً تقليدياً، بينما يُهدد خاطف مُلثم بقتله، إذا لم تُدفع فدية قدرها 50 مليون جنيه سوداني… الخاطف، الذي بدا كظلٍ بلا ملامح، خاطب الكاميرا بلهجة لا تقبل النقاش: “إمّا المال أو الموت … فاضطرت عائلة رجل الأعمال (ع. أ.) الذي يسكن مدينة رفاعة، في ولاية الجزيرة، إلى دفع 50 مليون جنيه سوداني، لإنقاذ حياته، بعد أن بعث لهم خاطفوه، من قوات الدعم السريع، مقطع فيديو يهدّدون فيه بقتله خلال ساعات، ما لم يسددوا مبلغ الفدية المطلوب.
وفي مشهد آخر من منطقة “أم دقرسي” بولاية الجزيرة ، ظهر الطبيب، محمد الطيب، رهينةً بيد خاطفٍ يرتدي زيّاً عسكرياً، مصوِّباً سلاحه إلى رأسهِ، بينما يُوجّه رسالة استغاثة إلى عائلته، لدفع الفدية، وقدرها عشرة مليونا من الجنيهات. ولم يجد ذووا الطبيب، الذي يعمل في أحد المشافي الصغيرة، بمنطقة أم دقرسي، خياراً سوى دفع الفدية، لإطلاق سراحه من أيدي الخاطفين.
ليس هذا وحسب، فقد أوضح الناجون من مدينة الهلالية التي خضعت لحصارٍ خانقٍ واعتداءاتٍ عنيفة، من قبل قوات الدعم السريع، في نوفمبر الماضي، أنهم تمكّنوا من الهُروب عبر دفع مبالغٍٍ باهظة، لعناصر الدعم السريع، وصلت إلى خمسة ملايين جنيه سوداني، للشخص الواحد. في حين بقي الفقراء عالقون، يعيشون تفاصيل الموت لحظة بلحظة.
هذه الحوادث لم تعد استثناءً، بل باتت جزءاً من مشهدٍ يوميٍّ يعكس انهياراً مريعاً في النظام الأمني بالسودان
وفي إحدى قرى الجزيرة “التي نمسك عن إسمها لأسبابٍ تتعلق بسلامة المواطنين والمواطنات هُناك” ، كانت الحياة تسير ببطءٍ، كما اعتادت عليه هذه الأرض الهادئة، حتى جاء ذلك اليوم الذي غيّر كل شيء. استيقظ أهل القرية على وقع خطواتٍ ثقيلة، ووجوه غريبة، تبعثُ الخوفَ في النفوس. لقد اجتاحت قوات الدعم السريع القرية، وانتشرت في كل زاوية منها، وكأنّها تحكم قبضتها على المكان والزمان.
في البداية، لم يفهم المواطنون الأبرياء المغزى… لماذا هُم هنا؟ ماذا يُريدون؟ لكن، الإجابة جاءت سريعًا وبشكل صارخ: “من أراد مغادرة القرية، عليه أن يدفع مليون جنيه سوداني”…
في تلك اللحظة، وقف أحد الآباء، وعيناه تملؤها الحسرة، وهو يحاول شرح ما لا يحتاج شرحاً، قال لهم “لا نملك قوت يومنا، فكيف لنا أن نُدبّر مبلغ كبير كهذا؟”… لكن، الكلمات ذهبت ادراج الرياح.
كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل… تحول الخروج من القرية، إلى حُلمٍ بعيد المنال، لمعظم السكان، خاصةً الفقراء، الذين لم يملكوا سوى قوت يومهم… جلس كثيرون أمام منازلهم، في حيرة، يتساءلون كيف يمكنهم جمع هذا المبلغ الضخم، بينما يتحوّل إحساسهم بالأمان، إلى شعور بالحصار، وبخاصة مع تفاقم الأوضاع الأمنية، في القرى المجاورة، التي شهِدت مجازر وحشية، وعمليّات تهجيرٍ قسري.
القرية كانت أشبه بسجنٍ مفتوح، حيث يعيش الأهالي في حالة من العجز التام، حيث كان الجوع يدق الأبواب، والخوف يُخيِّم على كل بيت، وهذا الواقع المؤلم، لمن يكن أحد يعرف كيف سينتهي، هذا الفصل من المعاناة، أو أن كان هناك بصيص أملٍ في الأفق، ويزيد عليهم معاناة أكبر، بفرض فدية بمبلغ وقدره، لينالوا حريتهم.
إسلام، وهي أم لثلاثة أطفال، قالت بصوت متهدِّج: “لم نرتكب أي ذنبٍ لنُعامل هكذا… نحن فقط، نُريد أن نعيش بأمان.”، لكنّها، مثل غيرها، وجدت نفسها عاجزة عن شراء حريتها، وحريات أطفالها،
فقد كان المشهد يبعث على القهر… أُسرٌ تضم ستة او سبعة أفراد، وجدت نفسها أمام حسابات مستحيلة، ستة ملايين جنيه، لأسرة واحدة، هذا بخلاف تكاليف النقل والمواصلات من القرية، إلى ولاية نهر النيل أو إلى شرق السودان.
وفي كل يوم، كانت الشوارعُ تشهد المزيد من التوتُّر والخوف… من يملك المال، يدفع ويرحل، ومن لا يملك، يظل حبيس القرية، محاصراً بين الفقر، والقهر.
أصبحت القرية مسرحاً لمعاناةٍ جديدة، في قصة من قَصص الألم، التي خلّفتها الحرب، حيث أصبح الحرمان من الحرية، تجارةً تُباع وتُشترى.
لعبة الخوف.. رهائن في قبضة المجهول
انتشار مقاطع الفيديو لهذه الحوادث، على وسائل التواصل الاجتماعي، أثار مزيج من الغضب والخوف والحزن. أحد المعلقين كتب: “في السودان اليوم، يمكنك أن تكون ضحية، لمجرد أنّك موجود.” آخر قال: “لم تعد الحروب تقتُل فقط بالرصاص، بل بالخوف، الذي لا يترك أحداً في مأمن”.