تقاريرتقاريرسلايدرصحافة حقوق الانسان

“كيف الصحة”؟؟؟!!! … الحال يغني عن السؤال في ظل الحرب والدمار بالسودان

رغم كل شيء، زهور نجت، لتظل شاهدة على زمن يتصارع فيه الناس مع أبسط حقوقهم: الحق في الألم، والحق في النجاة، والحق فى الحياة.

“كيف الصحة”؟؟؟!!! … الحال يغني عن السؤال في ظل الحرب والدمار بالسودان

رغم كل شيء، زهور نجت، لتظل شاهدة على زمن يتصارع فيه الناس مع أبسط حقوقهم: الحق في الألم، والحق في النجاة، والحق فى الحياة.

تقرير – حسيبة سليمان        خاص وحصري : (سودانس ريبورترس)

كل شيء بدأ بألم بسيط ذات ليلة، لكن، في السودان، حتى الأشياء البسيطة، قد تتحول إلى مآسٍ معقدة. حاولت زهور تجاهل الوجع الذي بدأ في ضرسها، لكنها، سرعان ما شعرت أن الألم يتوحش، كالنار المشتعلة في قطن هش. في قريتها الصغيرة بولاية الجزيرة بوسط السودان، لم تكن تعرف أنّ هذا الألم الصغير سيأخذها إلى شفا الموت.

مع اشتداد الوجع، قررت زهور، أن تذهب إلى مستشفى الحصاحيصا، وهي رحلة طويلة وشاقة، بحد ذاتها. في غياب وسائل النقل، بسبب شُح الوقود، لم تجد وسيلة سوى “الكارو”، تلك العربة البسيطة التي يجرها حمار، والتي أصبحت بالنسبة لها وسيلة النجاة الوحيدة… عندما وصلت إلى المستشفى، استوقفها أحد أفراد الدعم السريع، أمام البوابة،  وبلهجة آمرة قال: “أدفعي ألفين جنيه عشان تخشي”، دفعت بصمت، مع أن المبلغ، كان يعادل قوت يومها.

عندما دخلت المستشفى، فُوجِئت بمبنى أشبه بالخرابة؛ عنابر خاوية، إلّا من أسرّة متهالكة، ومرضى يتألمون بصمت، كأنما اعتادوا على غياب الأطباء… لم تجد زهور طبيباً لعلاج ضرسها الملتهب، فاكتفت بشراء بعض حبّات “البندول” ومُسكن من صيدلية المستشفى، ثم عادت إلى منزلها، بنفس الطريقة التي جاءت بها.

لكن، الوجع لم يهدأ، بل عاد أشد شراسة… قضت الليلة تتلوى، من الألم، غير قادرة، على ابتلاع المزيد من المُسكِّنات، فقد نصحتها إحدى الجارات الحاذقات قائلة: “ما تكتري المُسكِّنات يا بتّي والبندول،  خطير، ممكن يسبب ليك فشل كلوي”. في ذروة عذاباتها، فكّرت في السفر إلى عطبرة، أو شندي، أو حتى حلفا الجديدة، لكنها، أدركت أن الطريق محفوفٌ بالمخاطر والرصاص الطائش.

وسط يأسها، أخبرها جارها، عن طبيب أسنان، مُسنّ في القرية، لم يُغادر رغم الحرب… صباحاً، ذهبت إليه بخطوات متثاقلة. استقبلها الطبيب بابتسامة باهتة، قائلاً: “الوضع صعب يا بنتي، لكن نحاول”. في عيادة صغيرة داخل منزله، لم تكن سوى غرفةٍ، بأدوات قديمة، وكرسي خشبي متهالك، بدأ الطبيب محاولته، بدون مُخدِّرٍ كافٍ، وبمُعدّات غير معقمة، أجرى العملية… صرخت زهور من الألم، لكنها، تحملت، أملاً في نهاية هذه المعاناة.

بعد يومين، بدأ وجهها يتورم بشدّة، وكأن جرحها، قد اشتعل من جديد. عادت إلى الطبيب الذي حاول تنظيف الجرح، لكن، حالتها كانت أسوأ مما توقع… قال لها بصراحة: “أنتِ محتاجة مستشفى، لكن، الطريق ما آمن، والله يهون”.

لم يكن هناك سبيل للعلاج في القرية المُحاصرة… لجأت زهور إلى وصفاتٍ تقليدية؛ وضعوا لها “الحِلبة” على خدها، و”القُرنفل” معجوناً على الجرح، لكن دون جدوى… الألم يتفاقم، والحُمّى تشتد، والموت يقترب.

حين أصبحت حياتها على المحك، قرر أحد أقربائها المخاطرة… تحت جنح الليل، وفي طرق جانبية، مليئة بالمخاطر، نقلها إلى مدينة قريبة، ما زالت بعض مستشفياتها تعمل… هناك، وجدوا طبيباً شاباً، تمكن من إنقاذ حياتها، بأدوات بسيطة، وجُرأة كبيرة… عندما انتهى، قال بدهشة: “كيف يموت الناس بسبب حاجة بسيطة زي دي؟ وين الدولة؟ وين المستشفيات؟”… لكنه، شعر فجأة أن أسئلته ساذجة، وبلا معنى فلاذ بالصمت.

قصة زهور ليست مجرد حكاية ألمٍ فردي، بل، هي مرآة لواقع آلاف السودانيين والسودانيات. في ظل الحرب، يتحول جُرح بسيط إلى كارثة، وتصبح الحياة معركة يومية. المستشفيات مُغلقة، الأطباء غادروا أو هاجروا، والأدوية أصبحت نادرة كالمطر، في “قوز” مهجور.

رغم كل شيء، زهور نجت، لتظل شاهدة على زمن يتصارع فيه الناس مع أبسط حقوقهم: الحق في الألم، والحق في النجاة، والحق فى الحياة.

الوضع الصحي في السودان.. كارثة تتفاقم

في السياق، كشفت الدكتورة أديبة إبراهيم السيّد، عضوة خصوصي أمدرمان، واللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، لــ(سودانس ريبورترس) أن الوضع الصحي في السودان، بات كارثياً بشكل لا يُحتمل، خاصة بعد الحرب، التي اجتاحت شرق الجزيرة، وأدّت إلى إغلاق مستشفيات مهمة، مثل رفاعة، الهلالية، الحصاحيصا، وتمبول، بالإضافة إلى المراكز الصحية التابعة لها… الأرقام صادمة، حيث خرجت 90% من المستشفيات في المنطقة عن الخدمة، مقارنة بــ(80%) قبل اندلاع الأحداث في نوفمبر الماضي.  

المأساة لا تقف عند هذا الحد؛ هناك 57 منظمة تطوعية ودولية، توقّفت عن العمل، ما فاقم انتشار الأمراض والوفيات. الكوليرا وحدها سجلت 316 ألف حالة إصابة، بينما بلغت حالات حمى الضنك 685 حالة مؤكدة، مع انتشار واسع للملاريا، بأنواعها المختلفة.

أمّا سوء التغذية، فهو عنوان بارز لهذه الكارثة الإنسانية… هناك 167 ألف امرأة حامل، يُعانين من سوء التغذية، بينما فقدنا 45 ألف طفل بسبب هذه الأزمة، التي تفاقمت بشكل مريع… وفي جنوب كردفان، 54 ألف امرأة، يعانين من سوء التغذية، إلى جانب انتشار مرض السل.

أبعاد الكارثة الصحية وانهيار القطاع الخاص

جرائم الحرب أضافت فصلاً جديداً من الألم، حيث سجلت الإحصاءات الأخيرة 679 حالة اغتصاب بعد حرب الجزيرة، بالإضافة إلى 48 حالة إجهاض، بينها 12 حالة في مستشفى النو، و36 حالة في مستشفى شندي… حتى الولادات الطبيعية، لم تسلم، حيث تم تسجيل 4 حالات فقط في مستشفى النو، وسط هذه الظروف المأساوية

إلى ذلك، كشف د. محمد عباس فوراوي، المدير العام السابق لإدارة المؤسسات العلاجية الخاصة، عن حجم الكارثة الصحية التي يمُر بها السودان، مع انهيار شبه كامل، للقطاع الصحي الخاص، وخروج معظم مؤسساته عن الخدمة، مما أدى إلى تفاقم معاناة المواطنين، في ظل استمرار الحرب والأوضاع الأمنية المتدهورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى