بابنوسة: مدينة هجرها الناس، وتبعتهم الطيور، والحيوانات الأليفة
الحرب أسدلت الستار على عُمران واحدة، من أجمل مُدن غرب السودان، وأكبر مراكز هيئة سكك حديد السودان
بابنوسة: مدينة هجرها الناس، وتبعتهم الطيور، والحيوانات الأليفة
الحرب أسدلت الستار على عُمران واحدة، من أجمل مُدن غرب السودان، وأكبر مراكز هيئة سكك حديد السودان
الأبيض: قرشي عوض / خاص وحصري (سودانس ريبورترس)
يتفق أهل بابنوسة من الذين التقيناهم على الأقل، بأن مدينتهم لا يسكنها طائر الشؤم (البوم)… ويُرجع معظمهم، ذلك، إلى بركات الشيخ (أبو سماعيل) الذي يتوسط ضريحه المدينة، و في الحي الذي يحمل إسمه… لكن، (بشير نورالدين) أحد أبناء المدينة، والذي يعمل موظفاً بوزارة المالية الولائية، في مدينة الأبيض، ورغم أنه يتفق مع الآخرين، إلّا أنه يُرجِع الظاهرة إلى أن ذلك الطائر الذي يكاد يجمع أهل السودان على أنه نذير شؤم، يُفضّل الهدوء وتجتذبه المناطق المهجورة (الخرابات) … في حين أن بابنوسة مدينة ضاجة بالحياة، يستيقظ أهلها على صافرة “السكة حديد”، والتي تتكرّر فى اليوم أثر من مرّة، معلنة “مواعيد” الإفطار، وصرف المرتبات، والانصراف بعد نهاية الدوام، كما تتجاوب معها صافرة أُخرى، تنطلق من المصنع الكبير، الذي يُستخدم في أغراض أُخرى مثل سحن وتعبئة الكركدي، بعد أن فشل في مهمته الأساسية في تجفيف الألبان، لعدم استقرار قبائل الرُحّل من حوله، وذهابهم في رحلتي (“النُشوغ” والدمر”).
وفجأة، داهمت الحرب بابنوسة، وتوقف كل شي… وصمتت الصافرات التي كانت تحمل بُشريات عديدة أقلّها الإستمتاع بوجبة فول في المطاعم، التي تظلل واجهتها الأشجار الكردفانية المعمرة، ويتجمّع تحت ظلالها الوريفة، الناس حول ظرفاء المدينة، مثل (كرّاكة) والمرأة المهتمة بالرياضة (كابيلا)، وشيخ داؤود الدرويش، أو عند العودة إلى المنازل، في نهاية اليوم في أحياء أبو اسماعيل – السكة حديد – البشمة – السناقل – الفلنكة – الكماسرة – حي التربية – حي البوستة – حي الوحدة – السلام – وحي المقطاع شرق وغرب خط السكة حديد… المنازل مُتراصّة على مد البصر، ويقع السوق، ومؤسسات الدولة في وسطها، والجامعة إلى الشرق منها…. لكن، جاءت المحرقة، بالحرب الكارثية، التى دمّرت بابنوسة الجميلة، وأصبحت المدينة مهجورة – الآن- كل المنازل والساحات مقفرة، والشوارع خالية من المارة، وضجيج العربات التى تجرّها الحمير(الكارو)، والدراجات، التى كانت صفة مميزة، لعمّال السكة الحديد.
يقول آخر الناجين من المحرقة، والذي أخرجته مبادرة أبناء بابنوسة لجمع العالقين، والذين تقطّعت بهم السبل: (خرج الناس جميعهم، وتبعتهم الطيور والحيوانات) ويضيف في إبتسامة حزينة ( حتى (البوم) لم يطِق سكن البيوت، رغم أنها أصبحت خرابات).
إتجه الناس في البداية إلى أماكن الزروع في مناطق (صموعة، حاجة مكة في الشرق، والبشمة في الجنوب) … لكن معظم الأهالي لم يخرجوا من المدينة، إنتظاراً لما ستُسفر عنه المبادرة التي قامت بها الإدارة الأهلية، لأن معظم قادة القوتين المتحاربتين من المنطقة، وربما ينتمون الي افخاذ من قبيلة واحدة…. لكن، وللاسف، تلك الجهود لم تثمر، فقد طالب الدعم السريع، بانسحاب الجيش، وتسليمه مباني الحامية العسكرية… وهذا، مارفضه الجيش الذي وصلته إمدادات ماديّة وبشرية، بعد إخلاء مدينة نيالا، فطالب بإبتعاد الدعم السريع من حول المدينة… فكان النزوح الجماعي الكبير، بإتجاه الشمال والشرق، وإستقر السُكّان في مناطق (أُم جاك، أُم حميض، القنطور، والمقطاع)، وذلك، بعد أن دارت معارك ساخنة، حول مباني الفرقة 22، واللواء 89، إلى الشمال من الحامية… كما دارت معارك في مصانع الألبان، تم فيها إستخدام الطائرات… ودخل الدعم السريع إلى المدينة، وإستباحها، عن بكرة أبيها، كما يروي شهود العيان، الذين استطاعوا الفرار، والنجاة من المحرقة… ولم تسلم حتى قبة الشيخ أبو إسماعيل.
يقول (بشير) الذي أشرف على إجلاء أسرته، من مقر إقامته في الأبيض، مستفيداً من علاقاته في المنطقة، أن الأُسرة، قد تركت خلفها شقيقه الأصغر (نور الدين)، وقد إضطر – هو الآخر- أن يغادر إلى دولة جنوب السودان … ويصف نورالدين ماحدث، بأنّه حينما أحسّ بوجود حركة غريبة خارج المنزل، تسلل من الباب الخلفي. ولكنه، شاهد عربات قتالية، تقف أمام الباب الكبير… نادوا عليه بأن يقترب، وسالوه عن هويته… قالوا له أنت جندي في الجيش (بنيتك الجسمية تدل على ذلك)، إلّا أنّ جارهم الطاعن في السن، تدخّل وأقنعهم بأنه يعرف هذا الشاب، منذ أن كان طفلاً، وهو لا علاقة له بالجيش، حينها أخلو سبيله.
وذكر شهود عيان، من الناجين، بأن تلك قوات الدعم السريع، لم تترك أي شي في المدينة. أو على حد تعبيره (لم يتركوا ولا “بنبر”)… ويعتبر بشير أن ما نهبوه، كثير جداً، رغم أنه لم تتم عملية حصر حتى الآن… يروي آخرون، أنّ المدينة كانت قد جاءت إليها أُسر كثيرة من الخرطوم، يحمل ذويها متاعهم ومقتنياتهم، ظناً منهم، بأن المدينة، بحكم أنها بعيدة، ستظل آمنة، ولكنهم خرجوا منها بملابسهم، التي على أجسادهم فقط.
توزع الفارون بمساعدة مبادرة أبناء بابنوسة على مدن (المجلد، الميرم، شعاع، كجيرة، والدبب) . وبعضهم هاجروا الى الفولة، والتي أُجبروا على مغادرتها، بعد تعرضها للاجتياح… وترك الأهالي خلفهم مدينة لا يوجد فيها غير الجيش، داخل الحامية، ويطالبهم بعدم الحضور. والدعم السريع ويمنعهم من الدخول إليها.
وهكذا، أُسدل الستار على واحدة، من أجمل مدن غرب السودان، وأكبر مراكز هيئة سكك حديد السودان، وغدت بقعةً من العمران، خالية، وسط الرمال. فقد دمّرت الحرب المدينة، وانتهت تلك الصروح الكبيرة، التي كانت تميز بابنوسة، مثل، مسجدها العتيق، والنادي الكبير، الذي كان قد تم تشييده من “مال المسؤولية المجتمعية للسكة حديد”، كما ذكر النقابي الكبير (مختار عبدالله)، الذي كان يعمل ببابنوسة، في ستينات القرن الماضي … ويضيف عبد الله، بأنهم في (فرعية النقابة) كانوا قد إجتمعوا – وقتها – بالمدير، وطالبوا بأموال “المسؤولية المجتمعية”، التي صدّقها لهم على الفور، وبالتعاون مع قسم الهندسة، وضعوا مُجسّمات المباني، وتم التشييد، والبناء في زمن قياسي … ولكنّه – الآن – ينهار في لمح بصر… ويبقي السؤال الكبير، متي يعود لبابنوسة، عمرانها، وأهلها، وساكنيها، و”سكّة حديدها” التى كانت “تُقرّب المسافات” ؟.
*الصور من الإنترنت