السودانتقاريرسلايدرصحافة حقوق الانسان

عامان من الحرب في السودان: “فن الركض بأقدام حافية”

أصبحت غرف الطوارئ شبكة إغاثة ثورية نشأت من رحم لجان المقاومة، وتحولت منذ اندلاع الحرب إلى بديل شعبي للمساعدات الإنسانية في ظل غياب الدولة والمنظمات الدولية

عامان من الحرب في السودان: “فن الركض بأقدام حافية”

 

أصبحت غرف الطوارئ شبكة إغاثة ثورية نشأت من رحم لجان المقاومة، وتحولت منذ اندلاع الحرب إلى بديل شعبي للمساعدات الإنسانية في ظل غياب الدولة والمنظمات الدولية

 محمد عبد الحفيظ  – (خاص : سودانس ريبورترس) – 15 أبريل 2025

من بين ركام البيوت المهدّمة، ووسط دخان المدافع الذي لم ينقشع لعامين، تنهض حكاية شعب لم يُهزم. شعبٌ قُذِف إلى أتون حرب ضارية بلا خيار، فاختار أن يُقاومها بأبسط ما يملك: الإرادة، والتكافل، والكرامة. في بلدٍ تتقاذفه الجيوش وتنحسر عنه الدولة، ظهرت قوى خفية لا يحمل أفرادها سلاحاً، بل يحملون وجبات ساخنة إلى الجائعين، وأدوية إلى المرضى، وأغنيات تُعيد للناس شعورهم بأنهم ما زالوا أحياء.

هذا التقرير ليس عن الحرب فقط، بل عن أولئك الذين انتزعوا من بين أنيابها معنى للحياة. عن السودانيين الذين لم يكتبوا أسماءهم في قوائم الفاعلين الدوليين، لكنهم فعلوا ما لم تفعله المنظمات الكبرى: صمدوا، وعالجوا، وأطعموا، وغنّوا.. لا ليصنعوا معجزة، بل لأنهم لم يجدوا بديلاً للحياة سوى أن يصنعوها بأنفسهم.

فجّرت الحرب السودانية التي اندلعت منتصف أبريل 2023 إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، إذ تُعدّ المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع الأسوأ في البلد الإفريقي ذي التاريخ المليء بالحروب والنزاعات.

وبحسب الأمم المتحدة، اضطرّ نحو 15 مليون شخص منذ منتصف أبريل 2023 للنزوح داخليًا أو اللجوء إلى دول الجوار، وهو ما جعل السودان مركزًا لأكبر أزمة نزوح في أفريقيا.

والأحد، دعت منسقة الأمم المتحدة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتاين نكويتا سلامي، المجتمع الدولي إلى تجديد دعمه لملايين المتضررين من هذه الأزمة.

وقالت: “الناس في وضع يائس. نناشد المجتمع الدولي ألا ينسى السودان، وألا ينسى الرجال والنساء والأطفال في السودان الذين وجدوا أنفسهم في هذا الوضع الصعب للغاية في هذه اللحظة الحرجة”.

ويواجه السودان أيضاً أزمة غذائية حادة غير مسبوقة، إذ يعاني أكثر من 25 مليون شخص، أي نصف سكان البلاد، من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

وقد تم تأكيد حدوث المجاعة في مخيم زمزم المُتاخم لمدينة الفاشر في أغسطس 2023، وأُعيد تأكيدها مجددًا في ديسمبر من العام نفسه…وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، تواجه 13 منطقة سودانية أخرى خطر المجاعة في الأشهر المقبلة، ويواجه ما يقرب من 14 مليون شخص إضافي الجوع الحاد مقارنةً بما قبل اندلاع الصراع.

ظروف مثالية للأمراض

حذّرت منظمة الصحة العالمية في عام 2024 من أن الوضع في السودان يقترب من “عاصفة مثالية”، بفعل نظام صحي بالكاد يعمل، وأعداد كبيرة من الناس يلجأون إلى مناطق مكتظة تفتقر إلى المياه والصرف الصحي والغذاء وأبسط الخدمات.

وكما كان متوقعاً، أدّى انهيار البنية التحتية للرعاية الصحية إلى انتشار الأمراض التي عبرت الحدود، وأثّرت على الدول المجاورة، والتي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين، وهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها، ولكن، يحدث ذلك، بسبب انخفاض معدلات التطعيم في السودان.

وأبلغ الشركاء في المجال الإنساني عن زيادة في حالات الإصابة بالأمراض ومخاوف من تفشيها، لا سيما في المناطق الحدودية ومواقع الإيواء.

وعلى الرغم من الآثار الكارثية للحرب، برزت غرف الطوارئ السودانية كمبادرة مجتمعية انطلقت من لجان المقاومة التي قادت ثورة ديسمبر 2019، ولعبت فرق الاستجابة الطارئة التابعة لها دوراً محورياً في دعم الجهود الإنسانية وسط الحرب المستمرة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، منذ اندلاعها في 15 أبريل 2023.

وأصبحت غرف الطوارئ شبكة إغاثة ثورية نشأت من رحم لجان المقاومة، وتحولت منذ اندلاع الحرب إلى بديل شعبي للمساعدات الإنسانية في ظل غياب الدولة، والمنظمات الدولية.

واستندت إلى بنية لا مركزية، وتولت تقديم الغذاء والدواء والدعم للمستشفيات ومراكز الإيواء لملايين السودانيين العالقين، الموزعين بين مناطق النزاع المختلفة أو الذين نزحوا إلى مناطق آمنة، من خلال شبكات تطوعية محلية تنسق فيما بينها على المستوى الوطني، ما جعلها الشريان الحيوي لملايين المتأثرين بالحرب.

كان هدف هذه الغرف ولا يزال واضحاً: تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الذين يواجهون خطر الموت والجوع والمرض، وصعوبة الحصول على مياه الشرب والكهرباء وخدمات الاتصال.

ففي العاصمة الخرطوم، تعمل “غرفة طوارئ ولاية الخرطوم”، التي تتفرع عنها سبع غرف منتشرة في مدن العاصمة الثلاث: الخرطوم وأم درمان وبحري، على توفير الغذاء المدعوم، وإنشاء مطابخ تكافلية في الأحياء، وتوزيع سلال غذائية على الأسر في بعض المناطق.

ولم تقتصر الجهود الطوعية المحلية على العاصمة الخرطوم، بل شملت كل ولايات السودان، وأدّت وظيفتها الإنسانية بجدارة رغم التحديات، وأبرزها التمويل.

يقول عز الدين حمد، وهو ناشط في منظمات المجتمع المدني السودانية، لــ(سودانس ريبورتس): “أظهرت غرف الطوارئ بدورها الرائد، قُدرة السودانيين والسودانيات على المقاومة والاستمرار، رغم الجروح العديدة التي خلفتها الحرب”.

وإزاء هذا الدور الباهر الذي لعبته غرف الطوارئ، أعلن معهد أبحاث السلام في أوسلو، في الثالث من أكتوبر 2024، عن ترشيح غرف الطوارئ السودانية لجائزة نوبل للسلام للعام 2024، واصفاً إياها بأنها “رمز للأمل والصمود” في وقت تمر فيه البلاد بأزمة إنسانية حادة.

عبقرية الحياة

وعلى الرغم من عدم فوزها، فإن أعضاء غرف الطوارئ الموزعين في كل ولايات السودان ينظرون لتجربة اللجان كواحدة من أعظم الابتكارات التي أبدعتها العبقرية السودانية لدرء آثار الحرب.

وأشار البيان وقتها إلى أن هذه الغرف لعبت دورًا رئيسياً في تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية لملايين السودانيين، بما في ذلك تقديم الرعاية الطبية للنازحين والفئات الأكثر ضعفاً

يقول راشد محمد، الناشط في العمل التطوعي، لــ(سودانس ريبورترس): “في وجه الحرب كان الخيار واضحاً: إمّا أن ننهار أو نقاوم. فاخترنا المقاومة. نظمّنا صفوفنا من قلب الركام، ودافعنا عن حقّنا في الحياة. لم نسمح للرصاص أن يسرق إنسانيتنا”.

لم تكن غرف الطوارئ وحدها التي أظهرت قُدرة السودانيين على الارتقاء بجراحهم وخدمة بعضهم البعض، فثمّة تجارب أخرى، ليست عبر توفير الغذاء والمأوى فقط، بل من خلال الموسيقى والغناء أيضاً.

استعادة الروح

فبعد أن خضعت أجزاء واسعة من ولاية الخرطوم لسيطرة الدعم السريع لفترات طويلة، أفقدتها سحرها القديم، خصوصاً مدينة أم درمان العريقة ذات الروح الساحرة والمحبة للموسيقى والحياة،

يحاول أعضاء “صالون فلاح الثقافي” بأم درمان، بث الأمل في قلوب سكان العاصمة الوطنية عن طريق تنظيم جلسات غنائية متنقّلة رغم ظروف الحرب، مما ينبئ بقدرة المدينة على استعادة روحها القديمة رويداً رويداً.

ومؤخراً، درج أعضاء الصالون على التنقل بين أحياء أم درمان القديمة، مثل أبو روف وحي العرب وحي العمدة وود نوباوي وغيرها من الأحياء، لتأدية الأغاني الشعبية التي تُؤدّى بواسطة مغنيين ومغنِّيات، أغانٍ تغسل تعب قلوب العالقين تحت وطأة الحرب لعامين متتالين.

رغم الظلال الثقيلة التي ألقتها الحرب على السودان، والخراب الذي دمر الأرواح والممتلكات، وقف السودانيون كجدار صامد. بعيداً عن المؤسسات الدولية والحكومية الغائبة، استجابوا بأيديهم وقلوبهم، حاملين راية المقاومة في أبهى صورها، عندما صمدوا في وجه الحرب. آمن السودانيون بالحياة وبالإنسانية وبالكرامة، كانوا وما زالوا أقوى من الموت نفسه.

 وإن كانت الحرب قد دمرت الكثير، فقد أظهرت أن هذا الشعب لا يزال يمتلك القدرة على النهوض، على بناء ما تحطم، وعلى إضاءة الدروب المظلمة في أحلك الأوقات.

*الصور ة المصاحبة من الإنتر نيت 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى