خراب الذاكرة .. المتحف القومي في الخرطوم يتحوّل إلى أطلال
نهبٌ بحجم وطن … هل يمكن ترميم الذاكرة بعد الدمار؟!.
حسيبة سليمان (خاص: سودانس ؤيبورترس) … 16 أبريل 2025
في أحد أكثر المشاهد إيلاماً منذ اندلاع الحرب السودانية قبل أكثر من عامين، استيقظ السودانيون على فاجعة جديدة … المتحف القومي، الذي ظل لعقود أحد أبرز المعالم التاريخية في البلاد، تحوّل إلى أطلال. لم تسلم جدرانه من القصف، ولم تنجُ معروضاته من النهب، في مشهد يُلخِّص انهيار جزء مؤثر من الهوية السودانية وسط ركام الحرب.
متحف تحت النار
يقع المتحف القومي على شارع النيل، في منطقة استراتيجية تفصل بين النيلين الأبيض والأزرق، قبالة قاعة الصداقة. منذ الأيام الأولى للحرب في أبريل 2023، تحوّل الموقع إلى هدف عسكري، حيث تمركزت قوات الدعم السريع داخله، مستفيدة من بنيته المُحصّنة وحدائقه الفسيحة. ومنذ ذلك الحين، تعرض المتحف لقصف جزئي، ثم نهب ممنهج في سبتمبر 2023، وسط فراغ أمني كامل.
صرح ثقافي ينزف
يُعد المتحف القومي من أكبر الصروح الثقافية في السودان، إذ يضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تُغطي مختلف العصور الحجرية وحتى الفترة المسيحية والإسلامية. بدأت فكرة جمع الآثار عام 1904 في كلية غوردون التذكارية (جامعة الخرطوم لاحقاً)، لينتقل لاحقاً إلى مقرّه الحالي الذي أُنشئ بدعم من منظمة اليونسكو وافتُتح رسميا عام 1971، عقب حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة المهددة بالغرق بمياه السد العالي مطلع الستينيات.
من العصر الحجري إلى الحضارة الإسلامية
يُوثِّق المتحف لتاريخ السودان عبر آلاف السنين، بدءاً من أدوات العصر الحجري، مروراً بحضارات كرمة ونبتة ومروي، ووصولاً إلى ممالك النوبة المسيحية والفترة الإسلامية… ويحتوي على قطع نادرة، منها تماثيل الملوك الكوشيين تهارقا وبعانخي، ومخطوطات قبطية، ومقتنيات من الدولة المهدية، وأسلحة وعملات نادرة من عصور متفرقة.
المتحف المفتوح .. معابد على ضفّتي النهر القديم
يتميّز المتحف بفنائه الخارجي المعروف بـ”المتحف المفتوح”، الذي يضم معابد وآثاراً نُقلت من شمال السودان، قبل أن تغمرها بحيرة السد العالي في الستينيات، أبرزها معابد سمنة وبوهين، ومقبرة الأمير حجو تو حتب، وأعمدة كاتدرائية فرس، التي تُجسّد ازدهار المسيحية في السودان. وقد صُمم الفناء ليحاكي بيئة النيل، ما أضفى بُعداً فنيّاً وجماليّاً فريداً.
نهب بحجم وطن
في سبتمبر 2023، وبينما كان الوضع الأمني يتدهور، تم نهب مخازن المتحف في عملية وُصفت بأنها الأكبر من نوعها. وقدّرت الهيئة العامة للآثار، برئاسة د. غالية جار النبي، أن نحو 25 ألف قطعة أثرية قد سُرقت، بينها تماثيل حجرية، فخار نادر، وعملات تاريخية. وأظهرت صور الأقمار الصناعية شاحنات محملة بالمقتنيات تغادر المتحف، يُعتقد أنها اتجهت جنوبا، ما يلمّح إلى تورط شبكات تهريب عابرة للحدود.
المخازن تُفرَّغ بالكامل
في مقابلة مع وكالة السودان للأنباء “سونا”، أكدت د. إخلاص عبد اللطيف، نائبة مدير الإدارة العامة للآثار، أن مخازن المتحف القومي — وهي المستودع المركزي لجميع آثار السودان — تعرّضت للنهب الكامل… وأشارت إلى أن القطع المسروقة تشمل مومياوات، تماثيل، مخطوطات، وأوانٍ فخارية تعود لعصور متباينة، وأن بعضها نُقل بالفعل إلى خارج السودان، خاصة عبر الحدود الجنوبية…مُؤكدة أن الجزء الأكبر من المقتنيات الأثرية تعرضت للدمار في واحدة من أبشع عمليات النهب والتخريب التي شهدتها البلاد.
وأضافت الدكتورة إخلاص عبداللطيف أن المعتدين لم يكتفوا بسرقة الكنوز الأثرية، بل استولوا على الذهب المحفوظ بعد تحطيم أقفاله… وفي مشهد يعكس نيّة واضحة للتدمير الممنهج، عمدوا إلى إلقاء ما تبقى من القطع الأثرية على الأرض وسحقها بأقدامهم، وكأنّ الهدف لم يكن مجرد السرقة بل طمس الهوية ومحو التاريخ… ولم تقتصر أعمال التخريب على نهب المقتنيات بل امتدت إلى مباني هيئة الآثار والمتاحف، حيث تم تدمير الأثاث والأجهزة بالكامل، بما في ذلك أجهزة الحاسوب، في محاولة واضحة لمحو أي أثر للمؤسسة التي تُعد الحارس الأمين على تاريخ الأمة… ووفقا للتقييم الأوّلي للّجنة المختصة التي زارت المتحف، فإن حجم الدمار هائل، والعبث طال كل شيء تقريباً.
المتاحف الأخرى… في مرمى النيران
لم ينجُ غيره من المتاحف. فقد تعرضت متاحف القصر الجمهوري، الإثنوغرافيا، والمتحف الحربي في الخرطوم لأضرار بالغة، ونهب جزئي أو كامل.
استهداف للهوية
امتد التخريب أيضا إلى متحف نيالا بدارفور، ومتحف الخليفة عبد الله في أم درمان، ومواقع أثرية عديدة غير مسجلة… ويرى مُختصون في التراث، أن ما يحدث ليس مجرد خسائر مادية، بل حملة “تطهير ثقافي” تهدف إلى محو الذاكرة الجمعية للشعب السوداني.
ما بعد الدمار.. هل يمكن ترميم الذاكرة؟
لم يكن المتحف مجرد مبنى أو صالة عرض، بل رمزاً لهوية ثقافية ضاربة الجذور، فى اعمال التاريخ. ومع تحوُّله إلى ركام، يثور سؤال مرير: هل يمكن ترميم الأحجار دون فقدان المعنى؟. المتحف اليوم ليس فقط ضحية حرب، بل، شاهد على انهيار قيم ورموز يُفترض أن تبقى خارج الصراع.
بين الركام… بقايا صامدة
رغم كل شيء، لا تزال بعض التماثيل تقف، كأنها تُقاوم النسيان، أو تُذكّر بما كان… أما السودانيون، فيحاولون لملمة ما تبقى من ذاكرتهم، وسط شعور عميق بالفقد… فالمتحف القومي، آخر حراس التاريخ، لم يُدمّر فقط كهيكل، بل كمفهوم … كبوصلة كانت تشير في بعضها إلى من نحن، ويبدو أنها تاهت الآن!.
“ياليتنا متنا”!
وفي مقالة بعنوان “ياليتنا متنا قبل هذا” قال المدير السابق للهيئة القومية للآثار والمتاحف د. حاتم النور محمد سعيد: ” على ضفة النيل الأزرق، وفي أمان الله، حافظاً لتاريخ وهوية الشعب السوداني، يقع واحد من أهمّ المؤسسات الثقافية في إفريقيا والعالم: المتحف القومي السوداني. هنا، حيث يجتمع التاريخ المعرفي والفكري في السودان، منذ نشوء الجماعة، والقبيلة، وتطورها إلى مشيخة، ثم إلى دولة وإمبراطورية… عندما دافع كاشتا عن عقيدة شعبه، وعندما وحّد بعانخي النيل من المنبع إلى المصب… وعندما تجلّت أخلاق المكان بدفاع تهارقا عن أورشليم، في ذلك الزمان، ذكرنا الله في الكتاب المقدس.
جريمة في قلب الخرطوم
وتابع د. حاتم النور:”وفي ذات المكان، وفي قمة الجنون السياسي، مع اندلاع المواجهات العسكرية، تسرّبت تقارير أولية، تفيد باقتحام المتحف القومي، بواسطة قوات الدعم السريع، تزامناً مع سيطرتها على منطقة وسط الخرطوم، حيث يقع المتحف… وحتى لحظة اكتشاف الكارثة، لم تُحسم الشكوك، والاتهامات، على الرغم من نفي هذه القوة – وقتها – لهذه الاتهامات.
متحف بلا حصانة
ويؤكد د. حاتم النور محمد سعيد في مقالته: ” إن المتحف القومي، بمحتوياته التاريخية التي تشكل ذاكرة الأمة، لم يتبادر إلى الأذهان أنه سيكون هدفًا في هذه الحرب، إذ أنّ طرفيها، الجيش والدعم السريع، هما قوتان وطنيتان، فضلاً عن أن المتحف، لا يتمتع بأيّ ميزة عسكرية مقارنة بالمواقع الاستراتيجية العالية التي تحيط به، مما جعله يبدو وكأنه في مأمنٍ، من طرفي الحرب، لكنه، حاله، حال الشعب السوداني، تعرض للغدر، في لحظة لم تعد فيها حصانة لطفلٍ أو امرأةٍ أو شيخ، ناهيك عن متحف.
سرقة بحجم الذاكرة
وأوضح أن “التقارير الصحفية التي ظهرت لاحقاً، مثل تقريرٍ لوكالة “جينها”، قدّرت أن نحو 500 ألف قطعة أثرية، قد نُهبت أو دُمّرت من المتحف، وبعضها يُعتقد أنه نُقل عبر الحدود، إلى دول مجاورة. وفي غياب رقابة دولية أو محلية فاعلة، تحوّلت هذه الجريمة، إلى واحدة من أكبر عمليات النهب الثقافي، في التاريخ الحديث.